فصل: تفسير الآيات (27- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (27- 28):

{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)}
وقوله سبحانه: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق...} الآية: رُوِيَ في تفسيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في مَنَامِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى الْعُمْرَةِ أَنَّهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، بَعْضُهُمْ مُحَلِّقُونَ، وَبَعْضُهُمْ مُقَصِّرُونَ وقال مجاهد: رأى ذلك بالحديبية فأخبر الناسَ بهذه الرؤيا، فَوَثِقَ الجميعُ بأَنَّ ذلك يكون في وجهتهم تلك، وقد كان سَبَقَ في علم اللَّه أنَّ ذلك يكون، لكن ليس في تلك الوجهة، فَلَمَّا صَدَّهُمْ أهلُ مَكَّةَ قال المنافقون: وأين الرؤيا؟ ووقع في نفوس بعض المسلمين شيء من ذلك، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بأَنْ قَالَ: «وَهَلْ قُلْتُ لَكُمْ: يَكُونُ ذَلِكَ فِي عَامِنَا هَذَا»، أَوْ كَمَا قَالَ، ونطق أبو بكر قبل ذلك بنحوه، ثم أنزل اللَّه عز وجل: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق...} الآية، واللام في: {لَتَدْخُلُنَّ} لامُ القَسَمِ.
وقوله: {إِن شَاءَ الله} اخْتُلِفَ في هذا الاستثناء، فقال بعض العلماء: إنَّما استثنى من حيثُ إنَّ كل واحد من الناس متى رَدَّ هذا الوعد إلى نفسه، أمكن أَنْ يتمّ الوعد فيه وأَلاَّ يتمّ؛ إذ قد يموت الإنسان أو يمرض لحينه، فلِذلك استثنى عز وجل في الجملة؛ إذ فيهم ولابد مَنْ يموتُ أو يمرض.
* ت *: وقد وقع ذلك حسبما ذكر في السِّيَرِ، وقال آخرون: هو أخذ من اللَّه تعالى على عباده بأدبه في استعمال الاستثناء في كل فعل.
* ت *: قال ثعلب: استثنى اللَّه تعالى فيما يعلم؛ ليستثنيَ الخَلْقُ فيما لا يعلمون، وقيل غير هذا، ولما نزلت هذه الآية عَلِمَ المسلمون أَنَّ تلك الرؤيا ستخرج فيما يستأنفونه من الزمان، فكان كذلك، فخرج صلى الله عليه وسلم في العام المُقْبِلِ واعتمر.
وقوله سبحانه: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} يريد ما قَدَّرَهُ من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه.
وقوله: {مِن دُونِ ذَلِكَ} أي: من قبل ذلك، وفيما يدنو إليكم، واختلف في الفتح القريب، فقال كثير من العلماء: هو بيعة الرضوان وصُلْحُ الحديبية، وقال ابن زيد: هو فتح خيبر.

.تفسير الآية رقم (29):

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}
وقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} قال جمهور الناس: هو ابتداء وخبر، استوفى فيه تعظيمَ منزلة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {والذين مَعَهُ} ابتداء، وخبره: {أَشِدَّاءُ} و{رُحَمَاءُ} خبر ثانٍ، وهذا هو الراجح؛ لأَنَّهُ خبر مضاد لقول الكفار: «لا تكتب مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ»، {والذين مَعَهُ} إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور، وحكى الثعلبيُّ عن ابن عباس أَنَّ الإشارة إلى مَنْ شَهِدَ الحديبية.
* ت *: ووصف تعالى الصحابة بأَنَّهُمْ رحماء بينهم، وقد جاءت أحاديثُ صحيحةٌ في تراحم المؤمنين؛ حدثنا الشيخ وليُّ الدين العراقيُّ بسنده عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاصي أَنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرحمن؛ ارْحَمُوا مَنْ في الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» وأخرج الترمذيُّ من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلاَّ مِنْ قَلْبٍ شَقِيٍّ» وخَرَّجَ عن جرير بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ، لاَ يَرْحَمْهُ اللَّهُ» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهذا الحديث خَرَّجه مسلم عن جرير، وخَرَّجَ مسلم أيضاً من طريق أبي هريرةَ: «مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ» انتهى، وبالجملة: فأسباب الألفة والتراحم بين المؤمنين كثيرةٌ، ولو بأَنْ تَلْقَى أخاك بوجه طَلْقٍ، وكذلك بَذْلُ السلام وَطيِّبُ الكلام، فالمُوَفَّقُ لا يحتقر من المعروف شيئاً، وقد روى الترمذي الحكيم في كتاب ختم الأولياء له بسنده عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ كَان أَحَبَّهُمَا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَحْسَنُهُمَا بِشْراً بِصَاحِبِهِ» أوْ قَالَ: «أَكْثَرُهُمَا بِشْراً بِصَاحِبِهِ، فَإذَا تَصَافَحَا، أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، تِسْعُونَ مِنْهَا لِلَّذِي بَدَأَ، وَعَشَرَةٌ لِلَّذِي صُوفِحَ» انتهى.
وقوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} أي: ترى هاتين الحالتين كثيراً فيهم و{يَبْتَغُونَ}: معناه: يطلبون.
وقوله سبحانه: {سيماهم في وُجُوهِهِمْ} قال مالك بن أنس: كانت جِبَاهُهُم مَتْرِبَةً من كثرة السجود في التراب؛ وقاله عِكْرِمَةُ، ونحوه لأبي العالية، وقال ابن عباس وخالد الحنفي وعطية: هو وعد بحالهم يومَ القيامة من اللَّه تعالى، يجعل لهم نوراً من أَثر السجود، قال * ع *: كما يجعل غُرَّةً من أثر الوضوء، حسبما هو في الحديث، ويؤيد هذا التأويلَ اتصالُ القولِ بقوله: {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ} وقال ابن عباس: السَّمْتُ الحَسَنُ هو السيما، وهو خشوع يبدو على الوجه، قال * ع *: وهذه حالةُ مُكْثِرِي الصلاةَ؛ لأَنَّها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وقال الحسن بن أبي الحسن، وشِمْرُ بن عَطِيَّةَ: السيما: بَيَاضٌ وصُفْرَةٌ وتَبْهِيجٌ يعتري الوجوهَ من السَّهَرِ، وقال عطاء بن أبي رباح، والربيع بن أنس: السِّيمَا: حُسْنٌ يعتري وُجُوهَ المُصَلِّينَ، قال * ع *: ومن هذا الحديثُ الذي في الشِّهاب: «مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ» قال * ع *: وهذا حديث غَلِطَ فيه ثابت بن موسى الزاهد، سَمِعَ شَرِيكَ بنَ عبد اللَّه يقول: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عن أبي سفيانِ، عن جابر، ثم نزع شريك لما رأى ثابتاً الزاهد فقال يعنيه: مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ بِاللَّيْلِ، حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ، فَظَنَّ ثابت أَنَّ هذا الكلام حديث متركِّب على السند المذكور، فَحَدَّثَ به عن شريك.
* ت *: واعلم أَنَّ اللَّه سبحانه جعل حُسْنَ الثناء علامةً على حسن عُقْبَى الدار، والكون في الجنة مع الأبرار، جاء بذلك صحيح الآثار عن النبي المختار؛ ففي صحيح البخاريِّ ومسلم عن أنس قالَ: «مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْراً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ، ثُمَّ مَرُّوا بأخرى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا وَجَبَتْ؟ فَقَالَ: هَذا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْراً فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأَرْضِ»، انتهى، ونقل صاحب الكوكب الدُّرِّيِّ من مسند البَزَّارِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «يُوشِكُ أَنْ تَعْرِفُوا أَهْلَ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِمَ؟ قَالَ: بالثَّنَاءِ الحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئ»، انتهى، ونقله صاحب كتاب التشوُّف إلى رجال التصوُّف وهو الشيخ الصالح أبو يعقوب يوسف بن يحيى التالي، عن ابن أبي شيبةَ، ولفظه: وخَرَّجَ أبو بكر بن أبي شيبةَ أَنَّهُ قال صلى الله عليه وسلم في خُطْبَتِهِ: «تُوشِكُوا أَنْ تَعْرِفُوا أَهْلَ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ قَالَ: خِيَارَكُمْ مِنْ شِرَارِكُمْ، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِالثَّنَاءِ الحَسَنِ، وَبِالثَّنَاءِ السَّيِّئ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ» ومن كتاب التشوُّف قال: وخَرَّجَ البزَّارُ عن أنس قال: قيل: يا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَهْلُ الجَنَّةِ؟ قال: «مَنْ لاَ يَمُوتُ حتى تُمْلأَ مَسَامِعُهُ مِمَّا يُحِبُّهُ»، قِيلَ: فَمَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قَالَ: «مَنْ لاَ يَمُوتُ حَتَّى تُمْلأَ مَسَامِعُهُ مِمَّا يَكْرَهُ» قال: وخَرَّج البَزَّارُ عن أبي هريرةَ أَنَّ رجلاً قال: يا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ، قَالَ: «لاَ تَغْضَبْ»، وَأَتَاهُ آخَرُ، فَقَالَ: متى أَعْلَمُ أَنِّي مُحْسِنٌ؟ قَالَ: «إذَا قَالَ جِيرَانُكَ: إنَّكَ مُحْسِنٌ، فَإنَّكَ مُحْسِنٌ، وَإذَا قَالُوا: إنَّكَ مُسِيءٌ، فَإنَّكَ مُسِيءٌ» انتهى، ونقل القرطبي في تذكرته عن عبد اللَّه بن السائب قال: مَرَّتْ جنازةٌ بابن مسعود فقال لرجُلٍ: قُمْ فانظرْ أَمِنْ أهل الجنَّةِ هُوَ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فقال الرجل: ما يُدْرِينِي أمِنْ أهل الجنة هو أَمْ مِنْ أهل النار؟ قال: انظر ما ثَنَاءُ الناسِ عليه، فأنتم شهداءُ اللَّه في الأرض، انتهى وباللَّه التوفيق، وإياه نستعين.
وقوله سبحانه: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التوراة...} الآية: قال مجاهد وجماعة من المتأولين: المعنى: ذلك الوصف هو مَثَلُهُمْ في التوراة ومثلهم في الإنجيل، وتم القول، و{كَزَرْعٍ} ابتداءُ تمثيل، وقال الطبريُّ وحكاه عن الضَّحَّاك: المعنى: ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة، وتَمَّ القولُ، ثم ابتدأ {وَمَثَلُهُمْ في الإنجيل كَزَرْعٍ}.
* ت *: وقيل غير هذا، وأبينها الأَوَّلُ، وما عداه يفتقر إلى سند يقطع الشكِ.
وقوله تعالى: {كَزَرْعٍ} على كل قول هو مَثَلٌ للنبيِّ عليه السلام وأصحابِهِ في أَنَّ النبي عليه السلام بُعِثَ وَحْدَهُ فكان كالزرع حَبَّةً واحدة، ثم كَثُرَ المسلمون فهم كالشطء، وهو فراخ السُّنْبُلَةِ التي تنبت حول الأصل؛ يقال: أشطأتِ الشجرةُ: إذا أخرجت غُصُونَها، وأشطأ الزرع: إذا أخرج شطأه، وحكى النقاش عن ابن عباس أَنَّهُ قال: الزَّرْعُ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، {فَازَرَهُ}: عليُّ بن أبي طالب، {فاستغلظ} بأبي بكر، {فاستوى على سُوقِهِ} بعمر بن الخطاب.
* ت *: وهذا لَيِّنُ الإسناد والمتن، كما ترى، واللَّه أعلم بِصِحَّتِهِ.
وقوله تعالى: {فَازَرَهُ} له معنيان:
أحدهما: ساواه طولاً.
والثَّاني: أنَّ: آزره ووَازَرَهُ بِمعنى: أعانه وَقَوَّاهُ؛ مأخوذٌ من الأَزَرِ، وفَاعِلُ آزر يحتملُ أنْ يكون الشَّطْءَ، ويحتمل أَنْ يكون الزَّرْعَ.
وقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} ابتداء كلام قبله محذوف، تقديره: جعلهم اللَّه بهذه الصفة؛ ليغيظ بهم الكفار، قال الحسن: مِنْ غَيْظِ الكُفَّارِ قولُ عُمَرَ بِمَكَّةَ: لاَ يُعْبَدُ اللَّهُ سِرّاً بَعْدَ الْيَوْمِ.
وقوله تعالى: {مِنْهُمْ} هي لبيان الجنس، وليست للتبعيض؛ لأَنَّه وعد مرجٍ للجميع.

.تفسير سورة الحجرات:

وهي مدنية بإجماع.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)}
قوله عز وجل: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ...} الآية: قال ابن زيد: معنى: {لاَ تُقَدِّمُواْ} لا تمشوا، وقرأ ابن عباس، والضَّحَّاكُ، ويعقوب: بفتح التاءِ والدال، على معنى: لا تَتَقَدَّمُوا، وعلى هذا يجيء تأويل ابن زيد، والمعنى على ضم التاء: بين يدي قولِ اللَّه ورسوله، ورُوِيَ أَنَّ سَبَبَ هذه الآية أَنَّ وفد بني تميم لما قَدِمَ، قال أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رضي اللَّه عَنْهُ-: يا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ الْقَعْقَاعَ بنَ مَعْبَدٍ؟ وَقَالَ عُمَرُ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ أَمِّرِ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إلا خِلافي، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ، وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَنَزَلَتِ الآيةُ، وذهب بعض قَائِلِي هذه المَقَالَةِ إلى أَنَّ قوله: {لاَ تُقَدِّمُواْ}: أي: وُلاَةً، فهو من تقديم الأمراء، وعموم اللفظ أحسن، أي: اجعلوه مبدأ في الأَقوال والأَفعال، وعبارة البخاريِّ: وقال مجاهد: {لا تقدموا}: لا تَفْتَاتُوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى يقضيَ اللَّه عز وجل على لسانه، انتهى.
وقوله سبحانه: {لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم} الآية، هي أيضاً في هذا الفنِّ المتقدِّم؛ فرُويَ أَنَّ سببها ما تقدم عن أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما والصحيح أَنَّها نزلت بسبب عادة الأَعراب من الجَفَاءِ وعُلُوِّ الصَّوْتِ، وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي اللَّه عنه مِمَّنْ في صوته جهارة فلما نزلت هذه الآية اهْتَمَّ وخاف على نفسه، وجلس في بيته لم يخرج، وهو كئيب حزين حتى عَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خبره فبعث إليه، فآنسه، وقال له: «امْشِ في الأَرْضِ بَسْطاً؛ فإنَّكَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»، وَقَالَ لَهُ مَرَّةً: «أَمَا ترضى أَنْ تَعِيشَ حَمِيداً، وَتَمُوتَ شَهِيداً؟» فعاش كذلك، ثم قُتِلَ شَهِيداً بِاليَمَامَةِ يَوْمَ مُسَيْلَمَةَ.
* ت *: وحديث ثابت بن قيس وتبشيره بالجنة خَرَّجَهُ البخاريُّ، وكذلك حديث أبي بكر وعمر وارتفاع أصواتهما خَرَّجه البخاريُّ أيضاً، انتهى.
وقوله: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أي: كحال أحدكم في جفائه، فلا تنادونه باسمه: يا محمد، يا أحمد؛ قاله ابن عباس وغيره، فأمرهم اللَّه بتوقيره، وأنْ يدعوه بالنبوَّةِ والرسالة، والكلام اللَّيِّنِ، وكَرِهَ العلماءُ رفعَ الصوت عند قبرِ النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرة العَالِمِ وفي المساجد، وفي هذه كلها آثار؛ قال ابن العربيِّ في أحكامه: وحُرْمَةُ النبي صلى الله عليه وسلم مَيِّتاً كحرمته حَيًّا، وكلامه المأثور بعد موته في الرِّفْعَةِ مِثْلُ كلامه المسموع من لفظه، فإذا قُرئ كلامُه وجب على كل حاضر أَلاَّ يرفعَ صوتَهُ عليه، ولا يُعْرِضَ عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تَلَفُّظِهِ بِه، وقد نَبَّهَ اللَّه تعالى على دوام الحُرْمَةِ المذكورة على مرور الأزمنة بقوله:
{وَإِذَا قُرِئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} [الأعراف: 204] وكلام النبي صلى الله عليه وسلم هو من الوحي، وله من الحُرْمَةِ مِثْلُ ما للقرآن، انتهى.
وقوله تعالى: {أَن تَحْبَطَ} مفعول من أجله، أي: مخافةَ أَنْ تحبطَ، ثم مدح سبحانه الذين يَغُضّون أصواتهم عند رسول اللَّه، وغَضُّ الصوت خَفْضُهُ وكَسْرُهُ، وكذلك البصر، ورُوِيَ: أَنَّ أبا بكر وعمر كانا بعد ذلك لا يُكَلِّمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلاَّ كَأَخِي السِّرَارِ، وأَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يحتاج مع عمر بعد ذلك إلى استعادة اللفظ؛ لأَنَّهُ كان لا يسمعه من إخفائه إيَّاه، و{امتحن} معناه: اختبر وطَهَّرَ كما يُمْتَحَنُ الذهبُ بالنار، فَيَسَّرَهَا وهَيَّأها للتقوى، وقال عمر بن الخطاب: امتحنها للتقوى: أذهب عنها الشهوات.
قال * ع *: من غَلَبَ شهوتَه وغضبَه فذلك الذي امتحن اللَّه قلبه للتقوى، وبذلك تكونُ الاستقامة، وقال البخاريُّ: {امتحن}: أخلص، انتهى.

.تفسير الآيات (4- 8):

{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}
وقوله سبحانه: {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} نزلت في وفد بني تميم وقولِهِمْ: يا محمدُ، اخرج إلينا، يا محمد، اخرج إلينا، وفي مصحف ابن مسعود: {أَكْثَرُهُمْ بَنُو تَمِيمٍ لاَ يَعْقِلُونَ} وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} وقُرِئ {فَتَثَبَّتُوا} رُوِيَ في سبب الآية: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنَ أبي مُعَيْطٍ إلَى بَنِي المُصْطَلِقِ مُصَدِّقاً، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُمْ خَرَجُوا إلَيْهِ، فَفَزِعَ مِنْهُمْ، وظَنَّ بِهِمْ شَرًّا، فَرَجَعَ، وقال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ مَنَعُونِي الصَّدَقَةَ، وَطَرَدُونِي، وارتدوا، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهَمَّ بِغَزْوِهِمْ، فَوَرَدَ وَفْدُهُمْ مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ»، ورُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَ مِنْهُمْ بَلَغَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لاَ نُعْطِيهِ الصَّدَقَةَ وَلا نُطِيعُهُ، فقال ما ذكرناه فنزلَتِ الآية، و{أَن تُصِيبُواْ} معناه: مخافة أنْ تصيبوا، قال قتادة: وقال النبي صلى الله عليه وسلم عندما نزلت هذه الآية: «التَّثَبُّتُ مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ». وقوله سبحانه: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ في كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} توبيخ للكذبة، والعَنَتُ: المشقة.
وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون} رجوع من الخطاب إلى الغيبة، كأنه قال: ومنِ اتصف بما تقدم من المحاسن أولئك هم الراشدون.
وقوله سبحانه: {فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً} أي: كان هذا فضلاً من اللَّه ونعمةً، وكان قتادة رحمه اللَّه يقول: قد قال اللَّه تعالى لأصحاب محمد عليه السلام: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ في كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} وأنتم واللَّه أسخف رأياً، وأطيش أحلاماً، فَلْيَتَّهِمَ رَجُلٌ نفسَه، ولينتصح كتاب اللَّه تعالى.